على من لم يزل يحنّ لصفوة الصحافة التقليدية ووسائلها أن يعي جيدا أن نجمها بدأ يأفل وأنها لم تبق مؤثرة كما عهدناها ولم تعد تلقى متابعة واهتمام كما في السابق وأن زمانها قد يولي قريبا ويخفت صوتها كليا، وعليهم أن يدركوا أيضا أن نوعا جديدا أكثر تأثيرا بدأ يظهر إلى السطح يعتمد على التطور التكنولوجي والرقمي السريع، يأخذ العقول ويحتل مكانة مرموقة ليحل محل التقليدي الذي عفا عليه الزمن، نوع مترنح من الصعب أن يلتزم بمباديء الصحافة المتعارف عليها منذ القدم أو يرضخ لقوانينها الثابتة، نوع غير مكتمل الملامح والتضاريس ولا يعرف له من تعريف واضح وثابت، فهو في طور التبلور والصيرورة ولم يحظ بعد بنظريات وخطط صارمة يسير عليها ويعرف بها، سمته الأساس مشاركة الجميع فيه ومن كل الفئات والأعمار والمستويات التعليمية والثقافية والفكرية، غير قابل لسيطرة محكمة، وعرضة للتحريف والتزييف والاستخدامات غير المحمودة.

وقد نشعر هذه الأيام بالواقع الصحافي الجديد وتداعياته أكثر ونحن نتابع الحملة التي بدأتها وزارة الداخلية العراقية لمحاسبة (أصحاب المحتوى الهابط أو المتدني) كما يسمونهم، فأصل هذا النوع من المحتويات هو من صلب نتاج الإعلام الجديد ومخرجاته، لا يكترث للأمور كثيرا ولا يخضع لخطوط حمر أو ممسكات أو حدود أو روادع إلا الذاتية النابعة من وازع الضمير، سهل التناول والتداول، سريع الانتشار، واسع التأثير، وقليل التكلفة يقدر عليه الغني والمعدم.

وبعيدا عن الصراع المحتدم بين هذين النوعين من الإعلام وفي انتظار موعد الحسم، يعاني المجتمع معاناة رهيبة متفاقمة أصبح بسببها رهينة المشكلات التي تنهال عليه عبر زلل صحافية وهفوات غير مبررة بات على إثرها أسير العمل خارج نطاق المهنية والالتزام، والاستهانة بالقيم والأخلاق والمبادئ المتجذرة، وأغلب الظن أن رجحان كفة هذا التناطح صعب التكهن به بسهولة وفي المستقبل القريب.

في محاذاة ذلك لم يكن من المنطق السكوت عما يجري من استخفاف بالذوق والآداب العامة، فالإجراءات التي تنفذ اليوم وإن جاءت متأخرة، ضرورية إلى أبعد الحدود ونالت استحسانا شعبيا واسعا وتأييدا كبيرا حتى من صناع المحتوى الجدد، ولكن التعامل مع هذا الموقف يحمل الكثير من الأوجه والتبعات ويحتاج إلى حذر ودقة متناهية، فنحن هنا نواجه مسألة بالغة الحساسية تمس أحد الركائز الرئيسة في الديمقراطية الناشئة في البلاد وهي حرية التعبير ولابد ألّا يقوض أي رد فعل تنفيذي ما بُني في العراق الجديد بعد 2003 مع كل سلبياته والمآخذ عليه، في الوقت ذاته لم يكن الوقوف دون حراك والاكتفاء بالمشاهدة يجدي نفعا وبالتالي فإن ما أقدمت عليه السلطات حتى الآن وما ستقوم به لاحقا هو سلاح ذو حدين قد يأتي بنتائج عكسية إن لم تنفذ بوع وعقلانية ووفق آليات مدروسة بعمق.

فعلى الرغم مما واجهته الخطوة الحكومية من انتقادات واعتراضات وإن كان معظمها لا يستند إلى أسس علمية ومنطقية مقنعة، إلا أنها تعد ضرورية في ظل غياب نصوص قانونية صريحة تقنن النوع الإعلامي الجديد وتضع له خطوطا عريضة وتلزم العاملين فيه بالتقيد بأحكامها الأمر الذي يقتضي التفكير مليا في إصدار تشريعات عصرية تراعي التطور الصحافي والإعلامي وبيئته الجديدة وتصون خصوصيات المجتمع العراقي وهيبته في آن واحد وربما سيستغرق ذلك وقتا طويلا بسبب وجود قضايا تعيرها الطبقة السياسية أهمية أكثر وتمنحها الأولوية وتقدمها على غيرها، في حين لا يقل موضوع التشريعات القانونية لتنظيم الإعلام الجديد ومنصات مواقع التواصل الاجتماعي ورسم حدودها أهمية عن غيره من القضايا الملحة.

الأمر نفسه ينطبق على الوضع الإعلامي في إقليم كوردستان الذي يمر بالأزمة المستفحلة ذاتها وقد آن له أن يحذو يحذو بغداد في مواجهة الخطر المحدق باتخاذ خطوات مماثلة إجرائية وقانونية وتوعوية لإنهاء نشر محتويات تسيء لأعراف المجتمع الكوردستاني وتهدد الأخلاق والآداب العامة، حتى وإن تطلب الوضع أوامر قبض واعتقالات أو غلق منصات وحسابات ألكترونية.